
كتب: باهي حسن
قلعة قايتباي تعد واحدة من أبرز المعالم التاريخية في مدينة الإسكندرية، وقد شيدت في عهد السلطان الملك الأشرف أبو النصر سيف الدين قايتباي الظاهري عام 882هـ الموافق 1477م.
يعتبر السلطان قايتباي من سلاطين المماليك الشراكسة، وكان يتمتع بشخصية متدينة وصوفية، حيث كان يجل العلماء والمشايخ ويهتم بالمعرفة الدينية.
القلعة، التي تحمل اسمه، أصبحت رمزًا بارزًا للإسكندرية وعروس البحر المتوسط، وتجذب الزوار من كل مكان، سواء من داخل مصر أو خارجها.
في هذا التقرير نضع أيدينا على القلعة ومحتوياتها، وكذلك نقترب من السلطان الملك الأشرف أبو النصر سيف الدين قايتباي الظاهري، ونتعرف عليه عن قرب، وتاريخ بناؤه للقلعة.
سيف الدين قايتباي الظاهري
كان قايتباي متردداً في قبول السلطنة بعد خلع الأمير تمربغا، حيث أبدى رفضاً شديداً وبكى عند تنصيبه، وقد اشترط من البداية عدم توزيع نفقة البيعة على الجند، وهو تقليد كان يتبع عند تولي الحكم.
ورغم الصداقة القديمة التي جمعته بتمربغا، إلا أن الظروف السياسية أجبرته على قبول السلطنة، أظهر قايتباي احتراماً كبيراً لسلفه، واعتذر له عن خلعه، مما دفع تمربغا إلى تقبل الأمر بروح متفهمة.
وبعد ذلك، انتقل تمربغا إلى دمياط مكرماً، بينما تولى قايتباي الحكم وهو في الخامسة والخمسين من عمره.

واجه السلطان الملك الأشرف قايتباي الظاهري تحديات كبيرة في بداية حكمه، تمثلت في عدة مشاكل أبرزها فرار السلطان السابق تمربغا من سجنه بدمياط وهروبه إلى بلاد الشام.
مما دفع قايتباي إلى اتخاذ إجراءات حازمة للقبض عليه وإعادته إلى السجن.
بالإضافة إلى ذلك، عانى السلطان من نقص حاد في موارد الخزينة، وهو ما شكّل عائقًا أمام تجهيز جيشه للتصدي للأخطار الخارجية.
ورغم ذلك، تمكن من تجاوز هذه الأزمة المالية بإنفاق مبالغ ضخمة بلغت حوالي سبعة ملايين وخمسمائة وستين ألف دينار لتأمين احتياجات الجيوش، فضلًا عن الإنفاق على الأمراء والجند عند عودتهم من ميادين القتال.
تحديات عديدة
السلطان قايتباي واجه تحديات عديدة خلال فترة حكمه، من أبرزها استيلاء التركماني سوار بن سليمان على أملاك الدولة في شمال بلاد الشام وحلب، بما في ذلك قلعة إياس.
قايتباي أرسل عدة جيوش لمواجهة سوار، ولكنها لم تحقق النجاح حتى عام 875 هـ (1470م) عندما قاد حملة كبيرة هزمت سوار واستعادت المناطق المحتلة.
بعد محاصرة سوار وجنوده في قلاعهم، استسلموا وسيقوا إلى مصر، حيث تم شنق سوار.
بالإضافة إلى ذلك، قايتباي خاض معارك عديدة ضد العثمانيين، وحقق انتصارات ملحوظة.
ففي عام 893 هـ (1487م)، قاد أزبك بك جيشاً ألحق هزيمة كبيرة بالعثمانيين.
وبعد عامين، أرسلت حملة أخرى وصلت إلى أراضي العثمانيين في آسيا الصغرى، مما يظهر قوة وإصرار السلطان قايتباي في حماية دولته وتوسيع نفوذها.
بناء الدولة
بجانب بناء القلعة، اهتم السلطان بتطوير المؤسسات الدينية والعلمية في مختلف أنحاء العالم الإسلامي.
فقد قام بتشييد المساجد والمدارس والربط والزوايا، وأولى اهتماماً خاصاً بالأراضي المقدسة في الحجاز، حيث أعاد بناء الحرم النبوي الشريف بعد الحريق، وشيّد جامع الخيف في مِنى، وأعاد إعمار مسجد نمرة في عرفة.
كما أنشأ مدرسة بجانب المسجد الحرام ورباطاً لطلبة العلم والفقراء، وعمل على تحسين المرافق العامة مثل برك المياه ودرج المزدلفة، وأعاد الحياة لعين عرفة وبئر زمزم.
أما في مصر، فقد ترك بصمة معمارية وثقافية واضحة، حيث بنى العديد من المساجد والمدارس والزوايا، وأصلح الجامع الأزهر وجامع عمرو بن العاص، بالإضافة إلى جامع قايتباي.
ولم يقتصر نشاطه على مصر والحجاز فقط، بل امتد إلى بيت المقدس وغزة، حيث شيّد مدارس ورباطاً للمتصوفة.
قلعة قايتباي
تعد قلعة قايتباي من أبرز المعالم التاريخية في مدينة الإسكندرية، حيث تم إنشاؤها على يد السلطان قايتباي لتكون حصناً دفاعياً يحمي المدينة.
تقع القلعة في موقع استراتيجي مميز على لسان ممتد غربي ميناء الإسكندرية الشرقي، فوق الجزيرة التي شيّد عليها منار الإسكندرية القديم على يد بطليموس الثاني في القرن الثالث قبل الميلاد.
هذا المنار كان يعتبر من عجائب الدنيا السبع القديمة، مما يضيف أهمية تاريخية إلى موقع القلعة.
كما أن قرب القلعة من مكتبة الإسكندرية ومسجد المرسي أبي العباس يجعلها وجهة سياحية رئيسية تجمع بين التاريخ والثقافة في قلب عروس البحر الأبيض المتوسط.
قلعة قايتباي، التي تقع في مدينة الإسكندرية بمصر، لها تاريخ طويل ومثير للاهتمام.
كتاب “وصف مصر”
وفقًا لما ورد في كتاب “وصف مصر” الذي أعده علماء الحملة الفرنسية، فإن القلعة كانت محصنة بسور حديث وبرج مربع الشكل كان يستخدم لإشعال النار ليلاً كإشارة.
كما وجدت داخل القلعة أسلحة وسيوف تعود إلى عصور سابقة، يعتقد أنها من مخلفات حملة لويس التاسع الصليبية.
على مر العصور، حظيت القلعة باهتمام كبير من سلاطين مصر، مثل السلطان قنصوه الغوري الذي قام بتعزيز الدفاعات الشمالية بإضافة أسوار خارجية وفتح مكاحل لإطلاق البارود على الأعداء المهاجمين من جهة البحر.
كما عمل على تقوية الحامية وتزويدها بالسلاح والعتاد، مما جعل القلعة مركزًا دفاعيًا قويًا ضد أي غزو محتمل.
محتويات قلعة قايتباي
تصف القلعة المذكورة بأنها تحتوي على باب رئيس يؤدي إلى فناء كبير، حيث توجد حجرات إدارية على اليمين واليسار مخصصة للاستقبال والإدارة، وينتهي الفناء عند البرج الرئيسي الذي يقع في الجزء الشمالي الشرقي من القلعة.
يبلغ ارتفاع البرج 17 متراً وعرضه 30 متراً، ويتكون من ثلاثة طوابق. يتميز البرج بواجهة مدعمة بأعمدة من الجرانيت لتخفيف الأحمال وحماية الأجزاء السفلية.
في مدخل البرج، توجد دركاه كانت تستخدم لجلوس الجنود، وعلى جانبيها حانيات صغيرة لتخزين الأسلحة.
كما يحتوي البرج على فتحات تضم عتباً وشخشيخة أعلى البوابة الرئيسية، وهي عناصر دفاعية تستخدم لصب الزيت المغلي على الأعداء في حال اقتحام القلعة.
يعَدّ المسجد الموجود في الطابق الأرضي من المبنى تحفة معمارية تعود إلى أواخر عصر الدولة الأيوبية، حيث يتميز بتخطيطه المتقاطع المتعامد وتصميمه الفريد.
يعتبر الصحن أو “الدركاه” نقطة الارتكاز في المسجد، وهو مسقوف ومزين بأرضية من الرخام الأصلي الذي يرجع إلى عصر بناء القلعة عام 1480م.
محتويات مسجد قلعة قايتباي

يحتوي المسجد على أربعة إيوانات على غرار مساجد العصر المملوكي، بالإضافة إلى إيوان القبلة المخصص للإمام، والذي يتضمن محرابًا يسبقه عمودان من الرخام.
ومن الطريف أن المحراب لم يكن موجهاً نحو القبلة في البداية، مما استدعى تعديله لاحقاً.
يضم المسجد غرفة ملحقة تستخدم لمبيت الإمام أو الخطيب، وتحتوي هذه الغرفة على ضريح رمزي لم يعثر فيه على رفات موتى، ويقال إنه أعد لتكريم جندي مجهول أعدم ظلمًا نتيجة اتهامه بسرقة الأسلحة، قبل أن تثبت براءته.
أما الطابق الأرضي، فيحتوي على العديد من الحجرات والممرات التي كانت تستخدم لتخزين الأسلحة، كما أنها صممت كوسيلة تمويهية للدفاع عن القلعة.
ويرتبط هذا الطابق بالطابق الثاني عبر سلم ضخم ذو درجات كبيرة. كان الطابق الثاني يستخدم كمتحف يضم قطعًا من السفن التي شاركت في موقعة أبي قير البحرية عام 1798م.
بالإضافة إلى بعض ملابس الجنود والأسلحة من العصر المملوكي، وقد تم نقل هذه المعروضات لاحقاً إلى المتحف البحري في منطقة استانلي بالإسكندرية.
تجهيزات دفاعية ومعمارية
الطابق الثالث من القلعة وما يحتويه من تجهيزات دفاعية ومعمارية، يتضمن الطابق غرفًا بها مزاغل تستخدم لتصويب الجنود على الأعداء القادمين من البحر، مع تصميم يتيح للجندي الاختفاء بعد التصويب ويصعّب على العدو استهدافه.
كما يحتوي الطابق على مقعد للسلطان مع برج مراقبة كان يستخدم للإقامة المؤقتة، وقد استخدمه الملك فاروق كاستراحة لفترة.
بالإضافة إلى ذلك، يضم الطابق مرافق لدعم الجنود مثل مكان لطحن الغلال ومخبز لإعداد الطعام، وصهاريج لتخزين المياه التي كانت تجلب من ترعة شيديا.
كما توجد ممرات وغرف لتخزين الأسلحة، وحجرة مخصصة للإعدام.
قلعة قايتباي ليست مجرد معلم تاريخي بارز في الإسكندرية، بل هي شاهد على إنجازات السلطان الملك الأشرف أبو النصر سيف الدين قايتباي الظاهري، الذي ترك بصمات واضحة في مختلف المجالات.
خاتمة:
إن هذه الأعمال تعكس رؤية السلطان قايتباي الشاملة وحرصه على تعزيز البنية التحتية الدينية والتعليمية في عصره، مما جعل إرثه يستمر حتى يومنا هذا.
ولقد توفي السلطان قايتباي بعد أن اشتد عليه المرض، وبعد أن حكم البلاد تسعاً وعشرين عاماً تقريباً .
Share this content:
إرسال التعليق